فنان.. قصة قصيرة للدكتور احمد الخميسىاليوم السبت، 30 نوفمبر 2024 07:57 صـ   منذ 22 دقيقة - بوابة فكرة وي

0 تعليق ارسل طباعة

اسمي" عظمة"، وللأمانة فإنه ليس اسمي المسجل في شهادة الميلاد وهو عوض، لكنه اسم الشهرة الذي اكتسبته من عملي وإن لم يكن لهذا الاسم الفاخر "عظمة " أدنى علاقة بوضعي وأحوالي المادية وعلى العكس من اسمي فقد عشت بشق الأنفس أتصيد رزقي يوما بيوم، أما الاسم فقد فزت به من حرفتي التي امتهنتها بعد وفاة والدي. حينذاك أظلمت الدنيا في وجهي وتوقفت عن الدراسة مرغما وتفرغت لانتزاع لقمة العيش بكل السبل إلى أن حل يوم ما زلت أذكره وكنا في شهر رمضان حين طلبت أمي من جارة لها في الحارة أن تسعفها بشراء عمود ثوم، لكن الجارة اعتذرت لأنها ستتجه إلى سرادق مفتوح في الميدان المجاور حيث تقدم فرقة فنية عرضا بالمجان. كنت ساعتها أحوك فتقا في البنطلون حين دخلت أمي إلى حجرتي وظلت تلعن جارتنا وتجزم أن الزمن لم يعد زمن الطيبة، ولا عاد أحد يساعد جاره في أيامنا السوداء. أنهيت حياكة الفتق ولبثت جالسا مهموما أفكر في سداد ايجار الشقة وتكاليف الطعام التي تتضاعف كل يوم من غير أن يلوح مخرج، ثم برقت أمامي عبارة الفرقة الفنية فقلت لنفسي: " حفلة مجانا على بعد خطوتين فلأذهب لعلني أفك هذه الخنقة". وصلت إلى السرادق وجلست على دكة بجوار النسوان وعيالهم سارحا وهمومي تكبس على. بعد قليل ظهر على المنصة مطرب شاب أمسك بالميكرفون وبدأ في غناء " دماغي لفت.. أول الحلوة ما هفت"، وظل يكرر كلمة " لفت" وأنا في قبضة الاحباط فلم أشعر إلا وأنا أقف أمسك رأسي صارخا من اليأس: " عظمة على عظمة". تلبستني حالة عصبية ورحت كل شوية أقوم وأهتف صارخا :"عظمة" ثم أرتمي على الدكة. كنت أهتف حسرة على حياتي ومعيشتي، ومن حولي باعة الخضار ونسوانهم وعيالهم يهيصون على دقات الطبلة. عند انتهاء الحفلة لحقني شخص عند فتحة الخروج من السرادق وغمزني بورقة مالية من فئة الخمسين جنيه! حدقت بالفلوس متعجبا لا أفهم سبب هذه الهبة المفاجئة، فابتسم الرجل ابتسامة واسعة وقال موضحا: " حاجة بسيطة من الأستاذ مدحت المطرب. أنت كنت ممتازا في الوصلة التي غناها حين كنت تصيح بعلو صوتك عظمة". لم أصدق أن هذه الفلوس بيدي، لكني أحكمت قبضتي عليها، وتمتمت بتأدب وامتنان:" تحت أمركم أي وقت. الأستاذ مدحت فنان كبير".

أدهشني ما حدث وصرت بعد ذلك أتعقب أماكن الأفراح والحفلات والعروض الفنية، أدخل وأزاحم حتى أجد لنفسي مكانا أصرخ منه: " عظمة على عظمة الفن كله "، فإذا لم يأتني أحد ليغمزني بورقة مالية صعدت بنفسي إلى الكواليس قاصدا المطرب أو المطربة وأهمس مصطنعا الخجل:" الله ينور .. أنا من كان يهتف عظمة"، فيرفع أحدهم نظره إلي كمن يتذكر ثم يهبني ما فيه القسمة والنصيب. انتقلت سمعتي من حفل إلى آخر، ومن منطقتنا في روض الفرج إلى المناطق المجاورة وبدأت أتلقى الدعوات التي تحدد لي مسبقا مكان وموعد الحفلة أو العرض، وأحيانا كان طبال الفرقة أو عازف الناي فيها يتصل بي ويعلمني بأسماء الأغاني التي ستشدو بها الفنانة لأكون مستعدا.

شهرا بعد شهر تراكمت عندي الخبرة و الشعور بما ينبغي عمله في أي حفل وعند أي مقطع بل وفي أية لحظة، فإذ كان المطرب بلبلا صداحا كنت أنهض راسما اللوعة والشجن على وجهي وأطالبه بحرقة بالإعادة:" مرة واحدة حرام يا أستاذ. حرام. أعد ربنا يكرمك". وإذا تصادف أن كان مطربا يشيع الملل في الصالة كنت ألجأ لحيلة أخرى، فأنهض من مقعدي وأرقص وأتمايل وأطوح ذراعي في الهواء يمينا ويسارا حتى تنفرج صدور الجالسين ويقهقهون ثم يواصلون تجرع ما تبقى من الطرب، وإذا كان المطرب شابا جديدا مرتبكا كنت أعمد إلى استثارة تعاطف الجمهور معه بهتافات من نوع" عيني عليك يا ورد الشباب.. يا نجم المستقبل"، وأخيرا إذا ما كان مستوى الحفلة هابطا يثير الاستياء وعلي أن أحول الليلة من نهاية فاجعة إلى فشل خفيف كنت أفتعل خناقة مع اي شخص جالس بجواري أيا كان، وأسبه بكل الشتائم، فينشغل الجمهور عن فشل الفنان بالخناقة والعراك. وبناء على نصيحة طبال عجوز في إحدى الفرق اشتريت لنفسي جاكت أحمر وبنطلون أخضر وحذاء أصفر فاقع، لكي أكون مرئيا في الصالة. وكانت نصيحة الطبال في محلها، فقد فتح الله على بفضل الجاكت الأحمر وزادت شهرتي واشتريت موبايل بالقسط بل وطبعت بطاقة باسم "عظمة. عاشق الفن" مع رقم تليفوني. ومع الوقت صار لي عدد من الأصدقاء من بين الطبالين وعازفي الكمان ومن يدقون الصاجات، نسهر معا في بار مكرم نشرب بيرة مثلجة مع طبق مزة حلو ونحن نلوك سيرة الفنانين، من تزوج من، ومن هجرته من، وبفضل تلك الجلسات عرفت أيضا الكثير عن المقامات الموسيقية وحياة الملحنين حتى أن الصحف نشرت صورتي مرتين تحت عنوان" عاشق الفن"، ثم استضافتني مذيعة في برنامج تلفزيوني وسألتني عن الفرق بين مدرسة محمد عبد الوهاب الموسيقية ومدرسة السنباطي، فانطلقت في الكلام الذي كنت أسمعه من الآلاتية في البار، وبعد عامين انتقلت من المنطقة الشعبية أنا وأمي إلى شقة نظيفة واسعة واستبدلنا الأثاث الحديث "مودرن" بالأثاث القديم المتهالك، كما بعثت أمي إلى الحج الذي كانت تتمناه وازدهرت أحوالي على أني" عظمة" بل وعظمة على عظمة.

لكن الانسان طماع ولا يقنع بما لديه، فقد صادفني ذات يوم سرادق مهرجان سياسي وكانت أيام انتخابات، فتوقفت دقيقة أمام السرادق المنصوب ثم قررت أن أوسع على نفسي لأن الرزق يحب الحركة. دخلت وتخيرت مقعدا قريبا من المنصة، وما أن بدأ الخطيب يتحدث حتى رحت أشد شعر راسي وأنا أهتف بعلو صوتي: " عظمة يا أستاذ"، لكن قبل أن ألحق بتكرار الصيحة احاط بي ثلاثة رجال وأنا في مقعدي، وجروني من قفاي إلى الشارع بعنف لا أحب أن أخوض في تفاصيله، وفي الشارع أفهموني أن طريقتي لا تنفع في السياسة وأن لكل مهنة رجالها وأساليبها، ولم يكن في فمي سوى كلمة واحدة: " نعم. نعم". مشيت ببطء مثل كتكوت مبلل بسوء الحظ إلى أن سمعت صوت خطوات تتسارع من خلفي وصوتا يناديني: " يا عظمة". التفت إلى الخلف ورأيت شابا أنيقا يدنو مبتسما. وضع يده على كتفي وقال بنصف ضحكة : " أنت عظمة؟ صحيح؟". أجبته سعيدا في أعماقي أن هناك من تعرف إلي: " نعم. نعم". قال:" أنا أعرفك. حضرت لك حفلتين حلوين"، ثم شملني بنظرة عطف وقال كأنه يشرح شيئا: " السرادق السياسي موضوع مختلف عن الحفلات يا عظمة، هنا لا تصلح الملابس الملونة الفاقعة، وعلى العكس تحتاج بدلة وقور ونظارة بزجاج سميك، ويكون كلامك رزينا بطيئا، ولا تصيح لكن تكتب مقالات متزنة تهتف معانيها وليس ألفاظها". اتسعت ابتسامته متشككا إن كنت قد فهمت ما قاله، وربت علي كتفي قائلا : " لهذا لا تزعل مما جرى لك". الحق أني شعرت بامتنان نحوه فقد طيب خاطري فظللت أهز يده بين كفي بحرارة.

عاودت السير وأنا أقول لنفسي الشاب محق، لكل مجال أساتذته، وصاحب بالين كذاب، أنا أخطأت وحشرت نفسي من باب الطمع في صنعة لا أعرفها. مالها الحفلات؟ أنصرف بعدها معززا محترما إلى بار مكرم أو إلى بيتي فأجلس بالجلابية في شرفة الشقة الجديدة، يهف علي نسيم رطب وأمامي على منضدة طبق المزة الحلوة ولقمة فينو مع الشيشة المتوهجة بقطعة الحشيش. ولا أجمل من قعدة الليل هذه التي أستريح فيها، أسترخي لكن لا أنسى شغلي، أسجل على ورقة بجواري مواعيدي في اليوم التالي. غدا في السابعة مساء حفل المطرب سعد الكتكوت، لكن هناك عملا قبل ذلك؟ قبل الحفل؟ موعد أو لقاء؟ يا رب أفتكر. مع من؟ أين؟ تذكرت! لابد أن أتجه إلى ستوديو أربعين الطابق الرابع في مبنى الاذاعة لأشارك في برنامج" بحر النغم" بحديث عن الموسيقار محمد القصبجي، أما في الخامسة فهناك موعد لم يغب عن بالي لحظة، في جريدة " الوعد" مع الأستاذ شعبان المشرف على باب منوعات فنية، وكان قد استوقفني من أسبوع في حفل المطرب عبده بابور وطلب مني بما أني أحضر كل الحفلات أن أمده بأخبار الحفلات للنشر وما قد يصرح به المطربون، قلت له: " بكل سرور. التعاون مع الصحافة شيء يسعدني، كما أنني صديق لمعظم الآلاتية وعندي دائما معلومات طازجة عن الوسط الفني". قال لي: " تمام.. ولو أمكن أسرار الفنانين الخاصة. القراء يحبون هذه الأخبار حتى لو كانت شائعات". اتفقنا على اللقاء في مكتبه بالجريدة لنتكلم بالتفصيل. غدا يتضح كل شيء. باب رزق وممكن ينفتح. عظمة على عظمة يا فنان.

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الصباح العربي ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الصباح العربي ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق