هواجس.. قصة قصيرة لأحمد الخميسياليوم الثلاثاء، 5 نوفمبر 2024 03:18 مـ   منذ 52 دقيقة - بوابة فكرة وي

0 تعليق ارسل طباعة

لا يدري كيف وجد نفسه في مكان يلفه غيم من ضوء برتقالي شاحب، تسيل فيه كل رقعة في رقعة مجاورة بلا حواجز ولا جدران. تمهل ليدرك إن كان هذا غروبا ينسحب من النور ، أم بداية عتمة ليل. تلفت حوله، ثم تطلع إلى الأمام فشاهد منصة مستطيلة ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، أدام النظر إليها بمزاج عكر وأعصاب محترقة تجن اشتهاء إلى التدخين. هناك جلس ثمانية رجال بأكتاف متلاصقة، يوشوشون بعضهم البعض. داخله شعور بأنه رأى تلك الوجوه من قبل في الصحافة. مر ببصره على أياديهم يفتش فيها عن ذؤابة سيجارة مشتعلة فلم ير. تمتم:" لكن من غير المعقول أن تجتمع عدة شخصيات رفيعة الشأن ولا يكون من بينها مدخن واحد؟".

فجأة انبثق إلى جواره مثل السحر رجل قصير. طلع واقفا بالقرب منه من دون أن يحدث ظهوره أدنى صوت أو يحرك رفة هواء. لبث القصير واقفا برأس مرفوع مرسلا بصره إلى المنصة بعنجهية وغطرسة، وقبل أن يجد تفسيرا لذلك البزوغ المباغت لوى القصير رقبته ناحيته وخاطبه بنبرة متعجرفة:" تفضل"، وبسط ذراعه في اتجاه المنصة ثم اعتدل كما كان من دون أن ينتظر كلمة. لم يفهم ما الذي يعنيه القصير بقوله" تفضل"؟ أحس رأسه يكاد ينفلق وخلاياه توشك أن تجن من شدة حاجته إلى سيجارة وشعر أن قدميه لا تحملانه. أولى ظهره للقصير وراح يخوض بخفة في الغيم البرتقالي الناعس. تفرق بصره بين حلقات صغيرة من أناس يتبادلون الأحاديث. عليه أن يعثر في ذلك الحشد على صديق يسعفه بسيجارة. برق أمامه وجه بدا مألوفا وإن كان لا يذكر صاحبه. تقدم إليه. توقف أمامه يتوسل سيجارة بنظراته وتمتماته، فدس الرجل يده في جيب سترته وسحب علبة دخان لكنه ما إن رفعها في الهواء حتى ظهرت منبعجة الجوانب فارغة. رد العلبة مصدوما.

ثانية وجد نفسه – لا يدري كيف- أمام المنصة والقصير في مكانه كأنه كان في انتظاره. تحول القصير إليه بهزة رأس متغطرسة ودمدم بصوت كالصلب:" إنهم في انتظارك. ألم أقل لك تفضل؟". من هم الذين ينتظرونه؟ وما مناسبة هذا الاجتماع المهيب؟ ولم يدعونه هو تحديدا من دون الآخرين إلى المنصة؟! خامره مع الأسئلة الحيرى شعور بالأسف الشديد على أنه خرمان في لحظة بالغة الأهمية قد يصعد فيها إلى منصة فيجالس شخصيات رفيعة المقام. أربعين عاما يدخن ويحاول الاقلاع إلى أن سلم بعجزه وتعايش مع ذلك الشعور، لكن ارتفاع الأسعار على نحو جنوني رده إلى ضرورة الاقلاع، فلم يدخن في الأيام الثلاثة الأخيرة سوى أربع سجائر، آخرها كان مساء أمس. والآن تفسد عليه حاجته إلى سيجارة قدرته على التركيز في الصعود إلى أعلى والاحاطة بمغزى هذه اللحظة المهمة.

أفاق من خواطره على القصير يسدد إليه نظرة صارمة ويصيح فيه بغضب: "قلت لك تفضل. ألا تسمع؟". لابد أن الأمر بالغ الخطورة بحيث يرسلون إليه خصيصا هذا القصير الساخط الحانق. الأرجح أن يكون هدف هذا الاجتماع الرصين اختيار شخص ما لمنصب كبير وربما حتى رئيس الجمهورية. لكن ما علاقته هو بذلك؟ لقد قضى حياته بين البيت والشغل عاكفا على احتياجات زوجته وأولاده الثلاثة، ولم يكن له أي اتصال بشئون سياسة أو أحزاب. ترى هل يدعونه إلى الصعود تحديدا لأنه بلا تاريخ؟ نكرة؟ يدعونه لكي يصعد ويرتبك أمام القاعة ويبرطم بكلام تائه فيترك ظهوره وبساطته وسذاجته انطباعا بالنزاهة في كل الأمور؟ لكنهم لا يتخيلون ولا في الأحلام أنه على علم بكل صغيرة وكبيرة وأنه عاش يتابع الأحداث في صمت، ويعلق عليها بينه وبين نفسه. لا يعرفون أنه ليس بالبساطة التي تبدو على وجهه الطيب وفي أنفه الضخم. عاد ببصره إلى المنصة:" لكن ما الذي سأخسره إذا صعدت؟ سأقف صامتا في البداية عدة لحظات، ثم أتنحنح كما يفعلون، وبعدها أتلفت حولي متسائلا بنظراتي: أين السجائر؟ فيهرول شخص الي ويضع علبة دخان أمامي منحنيا بكل احترام. أدخن منها حتى أشبع، ثم أدق على المنصة بقبضتي مرتين، هكذا يفعلون، وألقي خطابي، وحينئذ يصابون بالذهول يصدمهم أن ذلك النكرة المجهول على علم بكل شيء. سأتكلم عن قضية مياه النيل وأن التفريط فيه تفريط في الحياة، وعن استعادة جزيرتي تيران وصنافير، واستنهاض الصناعة والكف عن بيع أصول الدولة، ثم أتطرق إلى توفير الخدمات الصحية للناس والارتقاء بالتعليم، وأخيرا أقول بصوت عال وبقوة إن مطلبي العاجل وقف الغلاء الذي فاق احتمال البشر .الله يلعن الدخان لو وجد سيجارة واحدة الآن لرتب أفكاره بحيث تخرج منظمة واضحة. برقت في مخيلته فجأة بدلته المعلقة مدلاة على مسمار في باب حجرة النوم، هناك علبة دخان كاملة. اندفع يدوس ضباب الضوء البرتقالي نحو البيت، وجد نفسه هناك في غمضة عين. فتش البدلة بأصابع مرتجفة وأنفاس لاهثة لكنه لم يعثر على شيء.

مجددا رأى نفسه واقفا أمام المنصة مع القصير الذي صاح فيه بصوت كالرعد: " إنهم في انتظارك. هل تفهم هذا؟". تمتم لنفسه باستسلام: " لا مناص من الصعود، المهم ألا أرتبك، وأن ألقي كلمتي بثقة وأن أقول كل ما لدي من غير خوف". قطع القصير استرساله في خواطره بلكزة في ظهره دفعته خطوة إلى الأمام كادت أن توقعه على وجهه وقال له من بين أسنانه غاضبا:" قلت لك إنهم ينتظرون". تقدم نحو المنصة حتى لم يعد أمامه سوى ثلاث درجات من سلم خشبي ويصبح في الأعلى، فيرتفع في لحظة من القاع إلى القمة حتى لو كان خرمان ورأسه مهروسا باضطراب. رفع قدمه اليمنى ووضعها على الدرجة الأولى، ورأى الان عن قرب وجوه الجالسين يحدقون به باهتمام وترقب. ارتقى الدرجة الثانية ثم الثالثة وتوقف ليلتقط أنفاسه، لكن موجة من العتمة لطمت رأسه فترنح في وقفته، وتلاشت المنصة وغاب المكان كاملا.

أفاق عند الفجر قرب زوجته وهي تشخر في نومها العميق. هز رأسه عدة مرات يزيح بقايا النوم. تربع جالسا على السرير لحظات ثم نهض بحذر وخرج إلى الصالة تسبقه عيناه إلى موضع علبه السجائر. مد يده بلهفة مضطربة إلى المنضدة وسحب سيجارة. أخذ الخدر الممتع يسري في أعصابه المشدودة ويهدأ صدره وتنتظم أنفاسه. دار ببصره في ما حوله وهو يتمتم لنفسه:" لكن أليست غريبة أن يفكروا في شخص مثلي لذلك المنصب الكبير؟". زحزح الكرسي إلى الخلف ونهض واقفا، قاوم رغبته في إيقاظ أولاده ليحكي لهم ما جرى، لكنهم لن يصدقوا ما حدث خاصة حين يقص عليهم كيف ضرب المنضدة بقبضته وهو يلقي خطابه ثم ما تلى ذلك من تصفيق. لن يصدقوا. عاد إلى الجلوس يسرح مع خواطره, ولمعت عيناه بسرور من الدهشة : " هكذا فجأة. حدث كل شيء فجأة.. غريب. لكن جميل. جميل بالفعل".

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الصباح العربي ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الصباح العربي ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق